مفارقات جديدة، يفرضها الفن والفنانون باستمرار، مؤكدين اختلافهم، محطمين الأفكار الكلاسيكية والمعهودة، ومخالفين باستمرار للتوقعات العادية. فعلى الرغم من الحصيلة الإنسانية الكارثية التي سجلها الوباء، نجد أن جائحة «كورونا» قد منحت العديد من المبدعين في مختلف ضروب الفنون، المزيد من المساحة لتجربة أساليب فنية جديدة، كما ألهمتهم لابتكار إبداعات تتناسب مع متطلبات المرحلة، ومن ثم استعراض أحدث إنتاجاتهم الفنية المستوحاة من تفاصيلها وربما من تأثيراتها. في الوقت الذي ذهب جزء كبير من الفنانين إلى استثمار «الفن» ليس لمجرد «الفن» وإنما لتوجيه رسائل هادفة تساعد المجتمع على تخطي الأزمة الراهنة، ومنهم كوكبة من المواهب الإماراتية الواعدة التي فجرت محنة الجائحة مواهبهم، والذين تحدثوا لـ«الإمارات اليوم» عن الفن وتأثيرات الجائحة فيه:
الفن للتوعية
بفضل بصمتها الواضحة في الأعمال التركيبية التجريبية والوسائط الجديدة، وقدرتها على إنجاز صور بورتريه، باستخدام أسلوب «سكانوغرافي»، شاركت الفنانة الإماراتية ميثاء دميثان رؤيتها الفنية المتفردة خلال بداية ظهور «كورونا المستجد» عبر حملة «#خلك بالبيت» التي جاءت بالتعاون مع «براند دبي»، الذراع الإبداعية للمكتب الإعلامي لحكومة دبي، وذلك من خلال ثلاث لوحات «بورتريه» تصور ثلاثة أشخاص يضعون أقنعة طبية، تعبيراً عن الفئات الأكثر عرضة للتأثر بالفيروس، وذلك بهدف تشجيع الأفراد على الالتزام بالحجر الصحي واتباع إرشادات الوقاية والسلامة المنصوص عليها في تلك الفترة وإلهام الناس من خلال الفن، بشكل يساعدهم على تخطي الأزمة بنجاح.
وفي هذا الإطار، عبرت الفنانة عن فخرها بهذه المشاركة التي تراها خدمة خالصة لوطنها الإمارات، مضيفة «تبرز أهمية الفن بشكل مؤثر في فترة الأزمات وفي ظل ما يشهده العالم من ظروف عصيبة بسبب انتشار فيروس كورونا المستجد، بشكل يؤكد قوة دوره المجتمعي في نشر التوعية، فضلاً عن دور الفن في إلهام المجتمع بالأفكار التي تعينه على كل التحديات التي قد تواجهه».
الموهبة «لا تحجر»
أمّا المصورة الإماراتية روضة أحمد الصايغ المتخصصة في التصوير الثقافي والمفاهيمي، والتي تؤمن بشدة بمكانة وقيمة الفن ولغة الإبداع القادرة على إحداث فارق جلي في العالم، فإن أزمة حجر «كورونا»، بعواقبها الاجتماعية الجسيمة وانكساراتها النفسية، لم تمنعها من تسجيل موقفها الإنساني، ولا التعبير عن اختلاجاتها النفسية من خلال الصورة الفوتوغرافية الناطقة بالمعنى، والتي أطلقت عليها صاحبتها اسم «نم قرير الشعب يا وطني»، واصفة تجربتها بالقول «كان لبداية الحجر المفروض عميق الأثر عليّ، بسبب توقف مشروعي الفني وكذلك المعرض الذي كان من المفترض إقامته في بداية العام، مما أشعرني بنوع من الإحباط من توقف معظم نشاطاتي في المجال». وتتابع أنها فرحت جداً بعد ذلك بإعلان (دبي للثقافة) حملتها الرقمية # لنبدع معاً، التي كانت بمثابة شراكة جديدة تدعم المبادرات الفنية المبتكرة، من خلال تشجيع جميع أفراد المجتمع المبدع على تقديم نتاجاته الفنية، كل في مجاله، والتي استقطبت آنذاك أكثر من 1500 مشاركة من فنانين إماراتيين ومقيمين، مضيفة «وقتها تحمست للإبداع (خارج الصندوق) ليس كما تعودت باقتناص أجمل اللحظات بعدستي في العالم الخارجي، وإنما داخل البيت، وبالأدوات المتاحة لي، لاستنباط فكرة صورة أشارك بها في الحملة فكانت صورة (نم قرير الشعب يا وطني)، التي أعتبرها من أهم أعمالي المعبرة عن خوفي على وطني الذي أحمله دوماً في قلبي»، موضحة «أما الرجل الذي تجسده الصورة، فهو زوجي سعود، الذي لطالما دعمني خلف الأضواء وها هو يدعمني اليوم أمامها ليكون موضوع الصورة، في غياب (موديل) خاص آنذاك.. لذلك أقول دوماً أن الأجساد يمكن أن تُحجر، ولكن الموهبة لا تُحجر أبداً».
الفن والإيجابية
لا تبدو حركة الفنان التشكيلي والرسام الكرتوني، الإماراتي سعيد العمادي، قد أعاقتها قيود «كورونا» المستجد، بعد أن أسهمت هذه الأزمة الإنسانية في فتح شهيته الفنية على التجديد، وذلك، لوفرة الأطروحات التي كرستها المحنة من وجهة نظر الفنان على جميع الصعد، فوجدت صداها في مشروع لوحاته الجديدة، التي ولدت من رحم «العزل المنزلي» ووصفها مبدعها بالقول «سعيت من خلال اللوحتين اللتين رسمتهما في بداية أزمة كورونا المستجد، إلى تكريس مبدأ الإيجابية في نظرة المجتمع لهذه المحنة الإنسانية غير المسبوقة، من خلال رسم الابتسامة على وجوه الناس، كما أردت توجيه رسالة توعوية للجميع بضرورة التعاون في محاربة الفيروس ومعاضدة جهود خطوط دفاعنا الأولى في هذه الحرب الضارية»، ويتابع العمادي «كان العمل الأول الذي عملت عليه أثناء وجودي في المنزل في فترة العزل عبارة عن رسم كرتوني يجسد جهود الأطباء والممرضين في المستشفيات. أما العمل الثاني، فهو عبارة عن تجسيد خيالي لشخصية الساحر هاري بوتر الشهيرة بالزيّ الإماراتي، ممتطياً مكنسته السحرية لمحاربة الفيروس».
آفاق فنية جديدة
من جهتها، رأت المصورة والرسامة الإماراتية أروى سليمان الحاطي، أن أزمة «كورونا» قد فجرت طاقاتها الإبداعية بشكل واضح، فبعد أن انطلقت موهبتها في التصوير الفوتوغرافي الذي مارسته بشكل احترافي في إطار «جمعية الإمارات للتصوير الضوئي»، ومشاركتها في معارض تصوير عدة في مناسبات وطنية، أوشكت الحاطي على نسيان هواية الرسم لكنها سرعان ما استعادت علاقتها الوثيقة بها خلال فترة عزل «كورونا»، قائلة «الرسم هواية قديمة مارستها بشكل متقطع من خلال رسم عدد من البورتريهات المتفرقة في كل حين. إلا أنه خلال فترة الحظر والعزل المنزلي، توفرت لي فرصة التعرف إلى نوع من الرسم يدعى (doodling)، فأعجبت به وكانت أول أعمالي بتقنياته، لوحة بحجم حائط غرفتي دمجت فيها بين فن الرسم والتصوير، لتقديم قطعة فنية متفردة تجسد نظرتي للواقع الجديد وزواياه ودلالاته الخاصة بحس فني متكامل ومتداخل التفاصيل». وحول تجربتها الإبداعية في فترة «كورونا»، قالت الحاطي «أراها تجربة غير مسبوقة فتحت لي آفاقاً لم أكن أعلم بوجودها لدي، ربما لأنها أعطتنا فرصة للتواصل مع الذات بعيداً عن مشاغل الحياة ومسؤوليات العمل وفتحت أمامنا فرصة استثمار أوقات الحجر الطويلة بشكل بناء لتجسيد نظرتنا للوجود وللأشياء من حولنا».